عندما تحترق الأشجار.. تداعيات تدمير الغابات على الصحة العامة والأمن الغذائي
عندما تحترق الأشجار.. تداعيات تدمير الغابات على الصحة العامة والأمن الغذائي
تؤكد أبحاث علمية جديدة أن الغابات الأصلية في حوض الأمازون ليست مجرد خزان للكربون أو موطناً للتنوع البيولوجي، بل تشكل أيضاً شبكة دفاع صحية تحمي ملايين البشر من أمراض تنفسية وقلبية ومن أمراض منقولة بالنواقل، وتضع نتائج هذه الدراسات، إلى جانب موجات الحرائق والجفاف المتكررة أمام العالم سؤالاً بسيطاً ومؤلمًا.. لماذا ننتظر حتى تحترق الأشجار كي نرَ أن ثمن الحماية أقل بكثير من تكلفة العلاج والفراغ الذي يتركه الرماد في حياة المجتمعات المحلية؟
وفق تقرير نشرته صحيفة "الغارديان البريطانية" الأحد، ترتبط حرائق الغابات في الأمازون بعدة عوامل متماثلة: استخدام النار لتنظيف الأراضي الزراعية والتوسع الرعوي، ضعف دور الحوكمة والمراقبة، واستغلال قطاعات مثل النفط والغاز التي تفتح طرقاً وتشجع الانخراط البشري.
إلى جانب ذلك، عززت موجات الجفاف المتكررة وظاهرة النينيا والأنماط المناخية المتطرفة من قابلية الغابات للاحتراق، ما حول حرائق محلية إلى موجات إقليمية تؤثر على ملايين الكيلومترات وتهدّد استقرار النظم البيئية.
كيف تتسبب الحرائق في المرض؟
دخان حرائق الغابات يطلق جزيئات دقيقة (PM2.5) وغازات سامة تنتشر على مسافات بعيدة، وتعرف هذه الملوثات بقدرتها على اختراق الرئتين والدخول إلى مجرى الدم، مما يفاقم أمراض الربو والالتهاب الرئوي ويزيد من مخاطر النوبات القلبية والسكتات.
وفي المقابل، يؤدي إزالة الغطاء الشجري إلى تلاقي أقرب بين البشر والحيوانات الحاملة للطفيليات والفيروسات، ما يعزز فرص انتقال أمراض مثل الملاريا وداء شاغاس وأنواع الحمى النادرة التقليدية، وتربط الأبحاث بين موجات الحرائق وارتفاع حالات الطوارئ الصحية بمعدلات ملموسة وفق منظمة الصحة العالمية.
دراسة نشرها فريق دولي في مجلة Communications Earth & Environment حلّلت بيانات صحية وبيئية لعقدين عن 27 مرضاً في بلديات الأمازون وأظهرت نمطاً يشي بأن البلديات القريبة من غابات سليمة وأراضي سكان أصليين مسجلة قضائياً سجّلت معدلات أقل للإصابة بعدد من الأمراض، لا سيما تلك المرتبطة بالدخان والأمراض المنقولة بواسطة العوائل والحشرات، وأوضح الباحثون أن حماية الأراضي الأصلية ووجود غطاء شجري عالٍ يقللان من مخاطر الأمراض المرتبطة بالحرائق، وإن نطاق التأثير قد يتغير حسب تركيبة المشهد الطبيعي المحلي.
أثر حرائق 2023–2024
سجلت السنوات الأخيرة ارتفاعات قياسية في حرائق الغابات بالأمازون وأقاليم الغابات المجاورة، مع خسائر واسعة في الغابات الأولية وإبلاغ عن مئات آلاف النقاط الساخنة وملايين الهيكتارات المتأثرة، وهذه الحرائق سببت حالات اختناق جماعي وإغلاق مدارس ومدن ملوّثة بالرماد، ووفق دراسات فإن عشرات الآلاف من حالات الاعتلال القصير والطويل المدى ترتبط بالتعرض لدخان الحرائق في المنطقة وخارجها، وتربط بعض التقديرات الحديثة على صعيد العالم مواسم حرائق كبرى بتوابع وفيات مبكرة بالآلاف سنوياً بسبب التلوث المنتشر.
تظهر تحليلات مؤسسات مثل معهد الموارد العالمية ومنظمات دولية أن الأراضي المملوكة أو المُدارة تقليدياً من قبل السكان الأصليين تفقد غطاءً شجرية أقل وتعمل حواجز طبيعية لامتداد قطع الأشجار والحرائق، حماية الملكية القانونية لتلك الأراضي وتعزيز قدرة المجتمعات الأصلية على إدارة مواردها يرتبطان بانخفاض حرائق الغابات وتقليل التعرض للدخان، ما ينعكس مباشرة على مؤشرات الصحة العامة في أنحاء عديدة من حوض الأمازون.
منظمات بيئية وطبية وأطر أممية علّقت سريعاً على هذه الأدلة، داعية إلى دمج الصحة العامة في سياسات الحفاظ على الغابات، واعتبر الاتحاد الدولي لصون الطبيعة أن الغابات الأصلية تقدم فوائد صحية ملموسة، في حين حثّت وكالات صحية مثل منظمة الصحة العالمية على التعامل مع دخان الحرائق كونه خطراً صحياً عام يحتاج استجابة طوارئ وتخطيطاً وقائياً.
وعلى المستوى القانوني، تؤكد المواثيق الدولية مثل إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية وإطار الاتفاقية الدولية للتنوع البيولوجي على أهمية الاعتراف بملكية الأراضي والمشاركة الحرة والمسبقة والمستنيرة للمجتمعات الأصلية في أي برامج حماية، وأن حماية البيئة تعد جزءاً من الحق في بيئة صحية وحق الصحة وفق الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة.
التداعيات الحقوقية والإنسانية
انهيار الغابات يضع حشوداً من السكان الأصليين وسكان الأرياف أمام فقدان مصادر الغذاء والدواء والعمل، ويعرضهم لمخاطر صحية مباشرة وغير مباشرة، منها تفاقم الأمراض التنفسية وظهور أمراض منقولة جديدة ونزوح داخلي يهدد الأمن الغذائي والثقافي. كما يطرح تقاعس الدول في حماية الأراضي الأصلية وإرساء آليات فعالة لمكافحة الحرائق مسألة المسؤولية وواجبات الحماية بموجب التزامات حقوق الإنسان، بما في ذلك تقديم معلومات شفافة، وتعويض المتضررين، وضمان طرق بديلة للرزق بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
تتقاطع توصيات الباحثين والمنظمات في نقاط عملية منها تسريع تسجيل ملكية أراضي السكان الأصليين وتمويل برامج حراستها، منع استخدام النار في تحويل الأراضي عبر إنفاذ القوانين المحلية والدولية، دمج خطط الصحة العامة مع استراتيجيات مواجهة الحرائق (تحذيرات مبكرة، مراكز طوارئ، توزيع أقنعة وتنقية هواء)، ودعم التعاون الإقليمي وتبادل التكنولوجيا لمراقبة الحريق والجفاف، كما تطالب التوصيات بمدّ شبكة حماية دولية عبر مؤتمرات المناخ والصحة، مع رصد مالي لقياس المنافع الصحية والاقتصادية لحماية الغابات.
الرسالة التي تحملها الأدلة الحديثة واضحة ومتوائمة مع خبرات المجتمعات المحلية: الغابات لا تحمي الأرض وحدها، بل تحمي الصحة والحياة والقدرة على البقاء، وحماية الأشجار وحقوق من يعيشون معها ليست رفاهية بيئية بل استثمار وقائي في الصحة العامة يحد من أوبئة، ويخفض تكاليف الرعاية، ويصون كرامة شعوب بأكملها، ويطالب الإطار العلمي والقانوني والحقوقي اليوم باتخاذ خطوات فورية ومُموّلة لحماية الغابات؛ التأجيل يعني أن الرماد سيكون الثمن الذي سيدفعه البشر أولاً.